ما الذي يجعل العلوم الطبيعية مختلفة عن بقية المعارف الإنسانية؟ ما الفاصل بين العلوم الطبيعية والفكر والأطروحات الإنسانية والدينية والفلسفة؟
أوضح جواب للسؤال هو اختلاف مواضيع العلوم، فلكل علم حقيقي موضوع يبحث فيه ذلك العلم، وموضوع العلوم الطبيعية هو الطبيعة في حين أن مواضيع العلوم الأخرى تختلف باختلاف تلك العلوم وغالبا ما تكون أمورا مجردة عن المادة، ومع تشعب المسائل التي تبحث فيها العلوم المختلفة وتداخل تلك المسائل بين العلوم فإننا نحتاج إلى معايير تفصيلية أكثر لفرز المسائل التابعة لكل حقل من العلوم المختلفة. فمن ناحية تنشأ الحاجة للتمييز بين المادة العلمية الحقيقية Science (وسنكتفي في هذه المقالة بكلمة علوم أو علم للتعبير عن العلوم الحقيقية)، والمادة العلمية الكاذبة Pseudoscience (ولنسمها بأشباه العلوم في هذه المقالة) من ناحية أخرى، فإنَّ هناك حاجة للتمييز بين العلوم الطبيعية عن العلوم الأخرى.
في فلسفة العلوم (وهو العلم المختص بالبحث في مثل هذه المسائل التي نتناولها في هذه المقالة) تُسمى مهمة فرز العلوم من أشباه العلوم بمعضلة التحديد “Demarcation Problem”، ويتفق معظم فلاسفة العلم المحدثين بشكل عام على أنه ليس ثمة معيار واحد واضح جدًا للتمييز الدقيق بين العلوم وأشباه العلوم، ولكن مع ذلك فإنّ لدينا المعايير التالية لخصائص العلوم الطبيعية؛ فالعلوم الطبيعية تبحث في مسائل الطبيعة: كما سبقت الإشارة إلى ذلك أعلاه. والعلوم الطبيعية تعتمد على المنهج التجريبي، فمنذ بدايات الثورة العلمية في القرن السابع عشر كان جليًا أن المنهج التجريبي القائم على رصد الملحوظات وتسجيل المشاهدات وإجراء التجربة العملية هو من خصائص العلوم الطبيعية، وقد كان لذلك تأثيره الواضح على آراء الفلاسفة في القرون اللاحقة فيما يتعلق بنظرية المعرفة؛ حيث نشأت المناهج الحسية والتجريبية في المعرفة.
وعمومًا.. من الواضح أن العلوم الطبيعية تتميز عن غيرها بأنها تعتمد بشكل كبير على التجربة والرصد والمشاهدة، مع أن ذلك لا يُقلل من حاجتها إلى المبادئ العقلية المنطقية والفلسفية، شأنها في ذلك شأن بقية المعارف والعلوم الأخرى. والبحث في مسألة المناهج العلمية وفلسفاتها بحث تخصصي طويل ليست هذه المقالة بصدده، غير أن ما يهمنا هنا هو الاقتباس من مسألة المنهج العلمي بما يفيدنا في الإجابة على السؤال الأساسي في عنوان المقالة: هل ينحرف العلم عن مساره؟
النظريات العلمية تكون قابلة للاختبار؛ ففي موسوعة روتلج للفلسفة “فلسفة العلم” يُعرّف المنهج العلمي على أنه “يشمل صياغة النظريات واختبارها بالملاحظة أو التجربة”. ومما يبدو فهذان الشرطان أساسيان في المنهج العلمي، وهما: أولا العمل على إيجاد نظريات أو نماذج علمية. وثانيا أن تكون تلك النظريات والنماذج قابلة للاختبار بالملاحظة والتجربة، وما لم يستوفِ الشرطين، فإن منهج البحث ليس علميًا.
وبالنسبة للفيزيائي الشهير ريتشارد فاينمان، فإنَّ المنهج العلمي يتلخص في 3 خطوات هي: التخمين (ويقصد بذلك وضع نظرية أو نموذج لتفسير الظواهر الطبيعية)، وحساب نتائج ذلك التخمين (ويقصد بذلك التنبؤ بكميات طبيعية مبنية على تلك النظرية)، ومقارنة الواقع (من خلال الرصد والمشاهدات) مع التنبؤات، فإن وافقتها فهي علمية ومقبولة وإلا فليست كذلك مهما كانت شهرة العالم الذي وضعها، كما أن جمال النظرية مفهوميا أو رياضيا لا يهم أيضا إن لم تتوافر الدعامة التجريبية لإثباتها.
وباختصار، فإنَّ المنهج العلمي قائم على وضع نماذج علمية باستخدام الرياضيات وتكون تلك النماذج قادرة على تفسير الملحوظات التجريبية الحالية وكذلك منتجة لتنبؤات مستقبلية قابلة للاختبار والتحقق.
القابلية للتخطئة كشرط أساسي لعلمية النظرية
في مسألة قابلية الفرضيات للاختبار كنَّا نبحث عن قابلية الفرضية للإثبات بطريق إيجابي، وقد وضع فيلسوف العلوم كارل بوبر (1902-1994) قيدًا إضافيًا مهمًا جدًا، وهو قابلية النظرية للتخطئة؛ حيث نبحث هنا عن إمكانية نفي النظرية تجريبيًا وهي طريقة سلبية لإثبات النظرية، وبعبارة أخرى أن نكون قادرين مبدئيًا وعمليًا على البحث عمّا يمكن أن يثبت لنا خطأ النظرية، بحيث إننا إنْ بحثنا وحاولنا تخطئة النظرية ولم نتمكن من ذلك، فإنَّ ذلك يعزز من قوة النظرية بشكل غير مباشر. أما إنْ لم تكن النظرية قابلة للتخطئة، فإنها غير قابلة للاختبار بشكل صحيح وبالتالي ليست نظرية علمية. وكمثال على ذلك لو طرحت نظرية مفادها أن “كل البجع بيضاء”، وأجريت تجارب ومشاهدات ووجدت بالفعل أن كل أفراد العينة التي فحصتها من البجع كانت بيضاء، فإنَّ ذلك لا يكفي لأن تكون نظريتك علمية، ولكن عندما نقول إن هذه النظرية قابلة للتخطئة عن طريق العثور ولو على بجعة واحدة غير بيضاء (سوداء مثلًا) فإن نفس هذه القابلية تجعل من عملية الاختبار والتمحيص خاضعة للمنهج العلمي وترفع النظرية إلى مصاف النظريات العلمية.
وحيث قد أسسنا بهذا المختصر السابق بعض أسس التمييز بين ما يمكن إدراجه في بند النظريات العلمية من غيرها، سنحاول الآن تسليط الضوء على نظرية الأكوان المتعددة لنرى إن كان يمكننا أن نعتبرها نظرية علمية أو شيئا آخر.
هل فرضية (نظريات) الأكوان المتعددة فرضية علمية؟ تفترض فرضيات الأكوان المتعددة أن هناك عددًا محدودًا أو لا نهائيًا من الأكوان الموجودة، وأن كوننا الذي نتواجد فيه ليس إلا أحد تلك الأكوان العديدة. وفرضيات الأكوان المُتعددة مختلفة عن فرضية الأكوان المتوازية وكثيرًا ما يتم الخلط بينهما لدى غير المتخصصين؛ فالأكوان المتوازية هي أحد التفاسير المُقدمة لتفسير الظواهر بالنظرية الكمية (الكوانتية) والتي تضم أيضًا تفسير كوبنهاجن وتفسير ديفيد بوم وتفسير المتغيرات الخفية، وهي كلها أمور مختلفة تمامًا عن الأكوان المتعددة.
وقد انقسم الفيزيائيون بين مؤيد ومعارض لفرضية الأكوان المتعددة، مما جعل من هذه الفرضية أمرًا جدليًا في الساحة العلمية؛ لنبدأ فحص الفرضية حسب المعايير المذكورة أعلاه: هل فرضية الأكوان المتعددة تبحث في الطبيعة؟
لا شك أنَّ نطاق بحث الفرضية هو في العالم المادي الطبيعي وامتداداته من ناحية الزمان والمكان والمادة والطاقة، وما إلى ذلك، لذا يمكن القول إن الفرضية تستوفي هذا الشرط.
هل يمكن إخضاع فرضية الأكوان المتعددة للاختبار التجريبي أو الرصد والمشاهدة؟ وهل هناك قابلية لتخطئة فرضية الأكوان المُتعددة؟
يتفق الفيزيائيون من المناصرين للفرضية مع المعارضين لها، أن هذه الفرضية ليست قابلة للاختبار التجريبي أو الرصد والمشاهدة وليست قابلة للتخطئة أيضًا؛ فالأكوان المتعددة التي تفترضها الفرضية إما أنها موجودة في أبعاد مختلفة عن تلك التي نستطيع رصدها وملاحظتها، أو أنها توجد في أماكن بعيدة جدًا بحيث إنه لا توجد إمكانية حتى من الناحية النظرية لإدراكها ورصدها، فالفضاء الكوني يتمدد أسرع من سرعة الضوء، وبالتالي تقع خارج نطاق المشاهدة والرصد. كما إنَّ نفس العلماء المناصرين للفرضية يقولون إنَّ تلك الأكوان هي أكوان منفصلة من الناحية السببية عن بعضها البعض، ومعنى ذلك أنه لا يوجد اتصال بين الأكوان المفترضة أو قابلية لأي منها أن تؤثر أو تتأثر بالأخرى، وهذا يحسم مسألة إمكانية التجربة والرصد والمشاهدة والتخطئة.
يتبينُ من هذا أن فرضية الأكوان المتعددة لا تستوفي الشروط المطلوبة للنظريات العلمية الطبيعية، وبالتالي تظل مسألة غير علمية، وهذا ما حدا بجورج إليس أستاذ الرياضيات التطبيقية بجامعة جورج تاون وجو سيلك أستاذ الفيزياء في معهد باريس للفيزياء الفلكية وجامعة جونز هوبكنز، كتابة مقالة في مجلة “نيتشر Nature”، والتي تُرجمت في الطبعة التي تصدر بالعربية من نفس المجلة في فبراير 2015، تحت عنوان “الدفاع عن نزاهة الفيزياء”. ونقتبس من مقالته ما يلي: “ومن ثم فإنَّ الادعاء المبالغ في تقدير أهمية بعض النظريات له أثر عظيم، وسيُصبح المنهج العلمي على المحك، ومن الخطر أن نحكم على صلاحية نظرية ما من مبدأ أهمية وجودها كي تحل محل الحاجة إلى معلومات واختبارات؛ لأنها بذلك تضلل الطلاب والعامة عن الأسلوب العلمي الذي ينبغي أن نطبقه، كما إنها تفتح الباب على مصراعيه أمام أشباه العلماء الذين يدعون أن أفكارهم تلبي متطلبات متماثلة”.
ونترك القارئ في النهاية مع السؤال في عنوان المقالة: هل ينحرف العلم عن مساره؟